الجنس 00 وأسرار بورديلات الجيش والدعارة المقننة في المغرب

أسرار بورديلات الجيش والدعارة المقننة في المغرب
«ملي كان كيكون روبو عند العساكرية، كيكثر السربيس.. كنت كنتقهر من الصباح حتى العشية.. مكنطلعش السروال. كان قبل ميكمل الكوميي النخيض ديالو في، كيتدخل العسكري ديال الفرنسيس وتيكول ليهم: (ألي زي، ألي زي..)، إلا مزربش الكوميي أو لا التيرايور يكمل في بيت الما.. السربيس والزربة النهار كلو. إخ منها حالة. إلا تفكرت ديك اليامات كتجيني التقيا وكنكول علاش ممتش كيفما ماتت فاظمة بالسفليس في عام 45..»

بكثير من المرارة تخنق امرأة كلمات اختلطت بالدموع وهي تعيد جزءا من شريط الأحداث داخل حي بوسبير، وسرعان ما تغيّر الموضوع حينما تقتحم علينا إحدى حفيداتها خلوتنا. لا تسألوا أين عثرنا على هذه الشهادة، ولا كيف التقينا بصاحبة هذه الذات المقروحة. داخل أو خارج الأسوار، وراء أو أمام حي “سبرانسا” الواقع غرب مقاطعة السمارة، في قلب حي بوسبير القديم أو بعيدا عنه. هناك نوع من الأسئلة مجرد التفكير في الرد عليها، يثير الشفقة، يجلب العار، يتصبب العرق وتراق دماء نزفت منذ عقود!
بوسبير! لازال مجرد إثارة هذا الإسم خلف أسوار مقاطعة بوسبير بدرب السلطان، أو خلف أسوار الباب الجديد بالمدينة القديمة في العاصمة الإقتصادية، مربكا. وأية محاولة للنبش في ذاكرة الحي بدرب السلطان، أو بالمدينة القديمة، ترفع منسوب الكريات الحمراء وتوقظ الجرح.
بوسبير! الحي الذي من فرط ما أصاب بعضا من سكان المدينة القديمة بالخجل الممزوج بالرهاب وطاردتهم وصمة عاره، كانوا يحرصون على تلطيخ أبواب دور الدعارة بمواد تختلف باختلاف المتوفر في بيوتهم من مواد قابلة لأن تميز البورديلات عن بيوت العائلات المحترمة، كما توضح إحدى القاطنات القدامى في حي بوطويل: «لم تكن دور الدعارة تقتصر على حي معزول، وإنما كانت تتوزع بعض البيوت الآهلة بالأسر المغربية. كنا نجاورهن دونما مشاكل، ونتفاداهن لأن زبناءهن كانوا من الجنود والعساكر المسلحين من مختلف الأجناس، ولازلت أذكر أن أحد الجنود السنغاليين داهم بيتنا في الأربعينيات معتقدا أن الأمر يتعلق ببيت للدعارة، وقد كاد يرمي والدتي بالرصاص لأنها واجهته وهو يحاول استغلالي جنسيا..إن أحسن حل كان بالنسبة لنا لتفادي المشاكل، هو وضع علامات على بيوتهن إما باستعمال العجين أو وضع علامة باستعمال الفحم، حتى نسلم من شر زبنائهن»
نفس الأسلوب نهجه التونسيون والجزائريون، وقد تكرر في العديد من الدراسات التي تطرقت إلى الدعارة الكولونيالية، وهذا ما نجد له مرجعا في دراسة الباحثين محمد كرو ومنصف محلا:«كانوا يضعون على بيوتهن علامات باستعمال ملون “التحميرة” من أجل فضح هذه الدور من جهة، ولوضع المسافة الضرورية بين هذه الأحياء وبين بيوتهم..» (1)
بوسبير المغرب بوسبيران، أما القديم منه، فهو ذلك الحي الذي يقع بالقرب من مسجد الحسن الثاني، وبينهما المعرض الدولي الذي يحتضن معرض الكتاب. وبوسبير الثاني، وهو ذلك الذي يجاور واحدا من أكبر الأسواق التجارية الشعبية في العاصمة الإقتصادية :”قيسارية الحفاري”.
بين بوسبير 1 وبوسبير2 أكثر من حكاية، ولكل زنقة وكل بيت، أو غرفة، أكثر من رواية. اسألوا بحي بوسبير القديم سكان حي بوطويل القدامى، ودرب الإنجليز، وحي السنغال، وشارع الطاهر العلوي، أو شارع “دوزيام تيرايور”، الإسمان اللذان لازال يحملهما نفس الشارع بالمدينة القديمة، واسألوا رواد سينما “المدينة” أو المدمنين على أفلام سينما موريطانيا بدرب السلطان، يأتوكم بالخبر اليقين عن دور استثنائية.
بعضهم سيحكي عن القمل والبق وسيتلذذ في سرد حكاياته عن “الكرن” أو الضفيرة التي كان يحرص المغاربة إلى حدود الأربعينيات على العناية بها وسط الرأس، بينما يحلقون ما دونها، ويستمتعون بالإشارة إلى الروائح النتنة والأمراض المنتشرة، ويصمتون عن مشاهد أخرى أعادها موقع “لايف” إلى الواجهة، دونما مواربة. لكن، دعكم من هذه الروايات، فالميدان سيد الأدلة.
«الريكلام، الريكلام، السوتيامات بعشرة الدراهم، البكيني بخمسة الدراهم..»
جلبة السوق اليومي الذي لا ينام تجاره بباب مراكش وفوضى”الفراشات” التي يعرض أصحابها البضائع الرخيصة بدرب السلطان، أول ما يستقبل الزوار الاعتياديين لحي بوسبير بالدار البيضاء.
لم أفهم منذ بداية اللقاء لماذا تقيأت محاورتنا بالدرب الصغير والهادئ بأحد أزقة بوسبير وهي تشد على تجاعيد وجهها، بمجرد ما شرعت “الأيام” في تحريض ذاكرتها على استرجاع شريط بوسبير.
خطوة بعد أخرى نقتفي آثار الغثيان والدوار الذي يسبق القيء بحي بوسبير، ونحن نمشي على الذاكرة التي لا يعيرها زوار واحد من أشهر الأحياء البيضاوية، أدنى اهتمام.
رغم مرور ما يربو عن ثمانية عقود ومحاولات بعض المنتخبين التخلص من عار الأمس، وقفت “الأيام” على حجم الآثار التي لازالت صامدة أمام الإهمال والتشوهات الهندسية للبناء العشوائي الذي طال أزقة صنفت كتراث إنساني.
الدليل على أنهم مروا من هنا الزقاق الذي يحمل بالمدينة القديمة اسم:”spahis”. فعلى بعد خطوات من باب مراكش الذي شيده البرتغال، تشهد على الذي مضى الزنقة التي تحمل اسما كان يطلق على الجنود الجزائريين في الجيش الفرنسي.
الفاسية، الصويرية، المكناسية، الدكالية.. واللائحة طويلة لأسماء أزقة عرضت بحي بوسبير أشهر وأقوى الباطرونات اللواتي كن ينظمن تحت مراقبة السلطة الفرنسية الدعارة الرسمية المقننة!
إنها الأسماء التي لازال بعضها، وإن غيرتها البلدية في العهد الجديد، الدليل الساطع بالزليج البلدي المتناغم مع الأبواب المقوسة بعناية، على أن الدعارة الكولونيالية غرست أظافرها في الجسد المغربي!
ما هو الوجه الآخر لبوسبير، لحي الأربعينيات، وليس حي القرن الواحد والعشرين الذي تغير جزء كبير من ملامحه؟ وأي الطرق تؤدي إلى المنعرجات التي سلكتها شابات قهرهن الجوع وارتمين في براثن الجهل والدعارة؟
«بوسبير! في ذكرياتي هذا الإسم يلمع في الدار البيضاء. بوسبير! اسم ظل مرتبطا في ذاكرتي بمنظر يجمع بين الجمال والبؤس في نفس الآن..» والعبارات للصحافي بيير داريوس في روبرطاج يعود إنجازه إلى سنة 1933.(2)
لا تختلف المنازل المغلقة -كما وصفها بيير بالدار البيضاء- كثيرا عن بعض الدور المماثلة لها في أوروبا، على اعتبار أن الأوربيين هم الذين أسسوا هذه الدور.
لحي بوسبير تاريخ قديم، كما يستقي جذوره الصحافي الفرنسي من قلاع الحرب: «ما بين سنتي 1910 و1912 حينما كانت الشجاعة والبسالة تتيح لمجموعاتنا فرض السلم الجزئي على بلد كان يعيش فوضى عارمة.. بعد شهور من الحملات العصيبة يستقر الجنود الفرنسيون في الدار البيضاء. قرابة عشرة ملايين من القناصة، الجنود البحارة، رماة المستعمرات، “زواف” (الجنود الفرنسيون بلباس أهل مراكش) و”سباهي” (الجنود الجزائريون في الجيش الفرنسي)، الأتراك، يدقون أوتاد خيامهم بالدار البيضاء المدينة الآهلة بالسكان..»(3)
إن عمر الدعارة المنظمة في المغرب إذن من عمر التكالب الإستعماري، كما توضح ذلك ذة. خديجة مسدالي بشكل عابر في مقال لها تحت عنوان: ظاهرة البغاء في المغرب في الوقت الحاضر: «..عرف البغاء في المغرب منذ معاهدة الجزيرة الخضراء في أبريل 1906، حيث طبقت على البغاء في المجتمع المغربي نفس القوانين السائدة في فرنسا آنذاك، إلى أن جاء عهد الحماية الفرنسية، فظهر فيه نوعان أساسيان من البغاء، هما البغاء الرسمي المنظم، والبغاء الحر المحتكر من طرف المستثمرين للبغاء من الفرنسيين الأجانب والعملاء، وكانت الدولة تقوم بحمايتهما في مقابل ضرائب معلومة..» (4)
فما هو الشكل الذي اتخذته الدعارة منذ معاهدة الجزيرة الخضراء؟
«في واحد من أحياء الدار البيضاء التي كانت تتردد عليها هذه الفرق، والتي استقر بها ما كان يصطلح عليه الكوموندون والعسكر بالـ(بي. إم. سي)، وسأوضح طبيعتها، لأن الموضوع الذي نحن بصدده يفرض ذلك: إنها الب… المتنقلة في القرى»(5)
كما تلاحظون، حتى الصحافي الفرنسي الذي فتحت له الإدارة الإستعمارية أبواب بوسبير والمصحات التي كانت تعالج فيها السلع المعروضة للعسكريين والمدنيين على حد سواء، اختبأ وراء الحرف الأول للبورديلات التي كانت تنظم عمل الدعارة المنظمة على عهد المستعمر، وسكت عن الكلام المباح في الثلاثينيات!
لكنه، في نفس الآن، يقر في الفقرات التي تليها بوظيفة هذه البورديلات:«..فحينما كانت المجموعات العسكرية تتنقل لمطاردة الثوار وللتأثير الإيجابي في الصحراء ذات الرمال الحارقة، كان هم السلطة العسكرية أن لا تتيح الفرصة للعسكر للإنتشار السريع في جو ساخن للممارسات الجنسية الخاصة (إشارة مبطنة للصحافي إلى أن الجيش الفرنسي حارب العلاقات الجنسية المثلية في صفوف الجنود)، لهذا قررت أن تسمح للأحياء الخاصة المتنقلة، كي ترافق الفرق العسكرية في مسارح العمليات.. ومن هذا المنطلق كان لكل فرقة عسكرية ما يسمى بالـ(بي.إم.سي)»(6)
تحتضن الخيمة التي تدق أوتادها الحب السريع للجنود مع بعض النساء العربيات، اليهوديات، العربيات البئيسات، هؤلاء اللواتي كن يخدرن للحظات جنودا بعضهم في طريقهم إلى الموت.. وحينما يعم الهدوء في أرجاء البلد، ويعود جزء كبير من المجموعات العسكرية إلى الدار البيضاء، جرت العادة أن تعود الـ(بي.إم.سي) إلى الإستقرار بدورها في الدار البيضاء..
«.. يمكن القول إن أصل الدعارة المنظمة والمرخص لها في الدار البيضاء، يعود إلى تأسيس الـ(بي.إم. سي)، حيث كان باستمرار للسلطة العسكرية حق المراقبة وحق الزيارة على الـ(بي. إم سي)..» (7)
حينما وضعت الحرب أوزارها، هنأ الجنرال كيوم الذي شغل رتبة قائد للوحدات العسكرية المغربية والجزائرية خلال الحرب العالمية الثانية الجنود المغاربة الذين حملوا اسم “الكوم” قائلا لهم بالحرف: «..ألمانيا تهابكم، وفرنسا لا تتحدث إلا عنكم، والحلفاء يقدرونكم، يمكنكم أن تعودوا إلى المغرب مرفوعي الرأس.. فرنسا لن تنسى أنكم ساهمتم في تحريرها..» (8) يومها لم ترد في الكلمة الطويلة والمسهبة للجنرال كيوم أية إشارة -مهما كانت متسترة- إلى أولئك النساء اللواتي كان لهن تأثير معنوي على العمليات العسكرية.
لأسباب أخلاقية، سكت الكثير عن وجود نساء عشن لحظات عصيبة بين سندان المعمر ومطارق الجنود وفوق سمائهن لهيب النار والرصاص، مثلما التزم الجميع الصمت.
طرقنا باب أكثر من “كوميي” متقاعد بجبال الأطلس أو داخلها، على اعتبار أن بلاد زيان هي التي غذت أكثر من غيرها منذ 1944 الجيش الفرنسي برجالات سيعرفون بجلابيبهم الداكنة، وصلابتهم، لكن، أغلبهم أجادوا لغة الصمت، وبصعوبة انتزعت “الأيام” من جندي بلغ من العمر عتيا واللعاب يتطاير من فمه والغضب يتصبب من عينيه اعترافا أشبه بالنكران: «واش بغيتوا حتى شرفنا نكولوا لأولادنا وأولاد أولادنا بلي كانوا الفرنسيس كيديوا معنا المغربيات واليهوديات باش نعسوا معاهم؟ واه حشومة. الله يرحمنا ويعفو علينا. علاش نبشوا في الخنز؟»
هناك شح واضح في الإشارة إلى هؤلاء السمراوات صاحبات النظرات الحزينة، اللواتي حاولن التمرد على الأعراف والجوع، لهذا جرت العادة أن يصطدم اقتفاء السياق الإجتماعي والثقافي الذي تمخضت عنه ظاهرة اجتماعية ونشاط نسائي بامتياز انتعش على هامش الحروب التي خاضتها فرنسا، بالكثير من العراقيل.
فرغم تطور النشاط غير المهيكل وتفاقم المشاكل التي طرحتها الدعارة المنظمة من طرف الإدارة الإستعمارية، إلا أن قلة المصادر على عهد الحماية تطرح نفسها بحدة في المسكوت عنه الذي لم ترفع عنه السرية في العديد من الأرشيفات، هذا ما وقف عنده الباحث محمد العربي السنوسي في دراسة معمقة له بعنوان:الدعارة في تونس على عهد المستعمر، حيث يدقق: «..لا نجد في الأرشيفات الوطنية في تونس أو في وزارة الخارجية الفرنسية، أو حتى في أرشيفات “نانت” الملفات والتقارير الكافية والدقيقة، للإجابة عن الأسئلة التي يطرحها بحثنا» ويضيف: «حسب معرفتنا لا توجد إلا بعض النقاط المشتتة حول مكافحة القوادة، والتي تدافع فيها الإقامة العامة عن نفسها مثلا سنة 1953 ردا على الاتهامات التي كانت قد وجهتها لها بعض الجمعيات النسائية، والتي تشير فيها إلى السهولة التي توفرها (الإقامة العامة دائما) للمتاجرة في النساء بين إفريقيا الشمالية وبين باريس وتسخيرهن للدعارة..» (9)
ومرة أخرى كان علينا أن ننبش في الذاكرة، وأن نجري وراء الحوارات الصريحة، وأن ننفض الغبار عن بعض المراجع.
كانت الطريق إلى فاضمة تقابشت شاقة، والوصول إليها يمر عبر مفاوضات عسيرة. وكان يكفي أن أصل إلى فم الجمعة، كي تطاردني عيون الـ(دي.إس.تي) من دمنات، وتقتفي خطوات “الأيام”. إننا بصدد النبش في جدار الدعارة الكولونيالية، ذلك الطابو/الكرانتي الذي صمد لعقود، وما تزال فرنسا تغمض عنه العيون، مثلما تتحاشاه الكثير من الأنظمة المغاربية!
بموازاة الأطماع الإمبريالية للأرض، كان هناك استعمار من نوع آخر، احتلال التأوه والصراخ الجنسي، تحت الخيام بالقرب من المدفع والرشاش، لمغاربيات فررن من الجبال الشاسعة أيام البون الممهورة بمعاناة الجوع والإهمال.
نهداها غير مكتملتين، وملامحها متجمدة. شابة أقرب إلى الطفلة منها إلى المرأة، تمد يدها إلى أعلى نقطة تبلغها في الزليج المغربي بالسقاية، وصنبور الماء المتصبب نحوها يشطرها إلى نصفين.
هذه “الكارت بوسطال” لشابة عند السقاية بحي بوسبير، تقدم الدليل على أن البطائق البريدية استعملت لقضاء أغراض كولونيالية محضة.
جميعهن حملن اسم فاظمة الجميلة. في الدرج، أو قرب الشباك، خلف القضبان الحديدية أو أمامها، بالمنديل صاحب العقدة التي تتوسط الرأس، أو بالقفطان الذي يتدلى من فتحته الصدرية النهدان.
نفس الصورة تتكرر: النهدان العاريان، والسيجارة في الفم.
«أعط لنفسك العناء لكي تنزع عنها الفستان، سترى مدينة فاس» إنه التعليق لصورة امرأة غارقة في الإغراء والإغواء والإهانة أيضا.
مزحة غير مسلية بطعم المرارة لدرجة توظيف العاصمة العلمية في إحدى الـ”كارت بوسطالات” التي لا تخلو من سوقية النظرة الكولونيالية.
فتيات صغيرات السن، يعريهن الإخراج التصويري بخلفياته الكولونيالية، كليا أو جزئيا.
عادة مستلقيات على الأريكة، يضممن إليهن ركبهن، أو متكئات على السقاية. يقفن بغنج بالقرب من الباب المقوس بتفاصيل نقش مغربي. نظراتهن تائهة داخل الثقبين المدورين في وجه مغطى بالشعر..إنها نفس الصورة التي تكررت في “الكارط بوسطال” الكولونيالية في المغرب وقبلها الجزائر وتونس. وهي نفس اللقطات التي سوَّق المعمر من خلالها صورة المرأة المغاربية، إلى درجة قد يخال للذي اقتنى الكارت بوسطال أن كل المغاربيات كن كذلك!
أكثر من وشم في الكتف وفي الذراع، وبين الحاجبين، والحلي الأمازيغية تنافس في العنق -نشازا- العقد المرجاني الأوربي رمز البورجوازية في الأربعينيات. يتطلعن إلى حامل عدسة التصوير، بكثير من الشبق والغنج، لكنه دلال باهت، رائحة الجوع إلى الخبز تعريها الوجوه الحزينة والنظرات الغارقة في الوحل والحاجة إلى الأرض التي حرمت بعضهن منها.
ألا تخفي هذه الصور النظرة المرضية والغارقة في الجنس؟
في أقصى درجات الغضب الممزوجة بالوطنية والغيرة على بنات الوطن، يتهم مالك علولة “سفراء الحقبة الإستعمارية” إن صح هذا التعبير، وهم أولئك الواقفون خلف عدسات التصوير: «الحريم أصبح بورديل! هذه آخر تحولات مخيال المستشرقين، كحقيقة تاريخية تفضحها أفكارهم المسبقة هذه المرة عبر الكارط بوسطال، التي تجول عبر البلدان في محاولة تضفي عليها نزعة العهارة..
الفكر الإستعماري هو أقصى ما وصلت إليه أخلاقيات الإستشراق والتطلع إلى الغرابة، لكن، هذه ليست إلا أخلاق القوادة ومالكات بيوت الدعارة..
التلصص يتحول إلى عصاب نفسي يستبد بالمستعمر الفرنسي. وحلمه الإيروتيكي العاكس للوجوه الحزينة لهؤلاء اللواتي يتقاضين أجرا مقابل الصورة، يترك المجال من خلال الجروح اللامتناهية عبر الكارت بوسطال، التي تعطيه هذه الديمومة، ويجعلنا نتكهن بالوجه الآخر للمستعمر وهو: العجز». (10)
جذعها عارٍ، وشعرها الخشن القذر، يتهدل كفروة من جلد الخروف، وأخرى لا تستر نصفها الأدنى إلا قطعة ثوب، هكذا بدت المغربيات المنسيات في صور الموقع الإلكتروني “لايف” الملتقطة في حي بوسبير في فاتح يناير 1944، وبين صورة وأخرى يظهر المستعمر ببزته العسكرية الذي كان يحرس بيد من حديد عاهرات بوسبير.
«كانت “مريريدا” المعروفة بالحروف الأولى(أ.أ) مثلا تتقاسم في سنوات 1950 الحياة مع جنديين من الكوم في الأطلس الكبير. قطنت وصديقتان لها في أزيلال، وفي بيتها كانت الكوادر العسكرية الفرنسية تجتمع للعب الكارطة وشرب أكواب الشاي..» (11)
“الأيام” عثرت على أكثر من إشارة لهذه المرأة وفي أكثر من مرجع. أروع ما كتب عنها وباسمها الديوان المترجم من الأمازيغية من طرف روني إلوج في نونبر1992، تقول في إحدى قصائدها: «انصرف، ارحل أيها الكوميي، يمكنك أن تظهر الكثير من الاحتقار، اليد مرفوعة، والشتائم على طرف لسانك، مادمت قد حصلت الآن على كل شيء مني. ارحل فيمكنك أن تغادرني وأنت تنعتني بالكلبة بعد أن ارتويت، تريد إخجالي من مهنتي، وأنت، هل كنت لتخجل وأنت تنتصب كالثور، عندما كنت تطرق برفق بابي، هل كنت تقصدني للتسلية بأوراق اللعب فحسب؟ كنت تأتيني ذليلا وخاضعا أيها الكوميي، قابلا سلفا كل شروطي، ومستعدا حتى لفقدان راتبك الذي لم تتقاضه بعد، وكلما كانت عيناك تتأملانني بلمعان، كلما زادتك الرغبة حاجة إلى الركوع تحت رحمتي، حينما اكتشفت في النهاية جسدي، كان بإمكاني أن أطلب روحك، وأن أطلب منك أن تلعن أمك وأسلافك. في أي سماء كنت تحلق بعيدا، وها قد عدت إلى الأرض متكبرا، صلبا، فظا، خشنا، تماما كجلبابك، المسكين، أسير اللحظة، عبدي، ألا تحس بتقززي وحقدي، في يوم من الأيام ستعيدك إلي ذكرى ليلتنا من جديد صاغرا وخاضعا. عشقك سيظل محفورا في العتبة، وسأضحك من نظراتك وطلباتك. ولكن، سيلزمني ثلاثة أضعاف الليلة التي سبقتها، ضريبة لغرورك وتصلبك، ولن أعير أي انتباه لعناقك، فالنهر لا يأبه لقطرة ماء!» (12)
إنها واحدة من الفتيات اللواتي كن يلبين الرغبات الجنسية للجنود المرابطين (داخل أو قريبا من المدارات الحضرية الكبرى أو في القرى التي تحتضن دورا منظمة للدعارة) حينما يكون الجنود إما في عطلة أو مأذونا لهم.
يصفق الجندي الباب، يختار أجملهن، يجرها من ثدييها العاريين إلى الغرفة، يعنفها، وبعد ساعة من الزمن يغادر ويده على زناد مسدسه، وحينما تطلب الباطرونا المقابل، يرسم بلكمتين على عينها ألوان قوس قزح، ويده على السوط والمسدس!
هكذا يروي لـ “الأيام” شيخ اشتعل رأسه شيبا أحد المشاهد التي استرقها خلسة وظلت عالقة في ذهنه بحي بوسبير القديم.
ولأن الحكاية انتقلت من الفم إلى الأذن بين الجنود، فقد انتشرت عدوى “السيبة” بقلب بوسبير، لدرجة بات “فتوات” الجنود الجزائريين والسنغاليين والفرنسيين..يتنافسون بالتناوب في استغلال أجمل بنات بوسبير جنسيا دون مقابل، قبل أن يتدخل من جديد الجيش الفرنسي ويعيد فرض “النظام” بسوق الدعارة المقنن مع إعادة مراجعة تسعيرة العملية الجنسية، كما يوضح مصدرنا دائما بحي بوسبير!
«ظل الجيش يفرض في هذه الدور التي يتقاسمها المدنيون والعسكريون بصعوبة في ما بينهم، قانونه الخاص وينظم تواجد العسكر، وفق أجندة تتفادى التطاحنات الإثنية، بين السنغاليين والمغاربة، وبين الكوميين أنفسهم والجنود الجزائريين (spahis) والحزازات التراتبية بين (الجنود والضباط) وكذا الخلافات التي تكدر صفو اليومي» (13)
في أقل من خمس دقائق، كان الجندي المتناوب على المجندة لتخدير العسكر في الصفوف الأمامية للمحاربين في الجيش الفرنسي، يتغير ليعوضه آخر، وهذا معناه أن عمر العملية الجنسية -كما أكدت إحدى ضحايا معسكرات العار في باريس التي كانت تحمل اسم الأنتربول حينئذ- كان الأقصر في التاريخ الإمبريالي الفرنسي!
أريقت الكثير من الدماء بين جدران حي بوسبير، ليس فقط للمقاومين والفدائيين الذين فجروا قبيل استقلال المغرب أكثر من قنبلة بدرب السلطان أو بباب مراكش، ولكن بين جنود ظلوا يتصارعون من أجل الظفر بنساء كانت ندرتهن في ساحة القتال تجعل منهن المتنفس الوحيد الذي قد يخنقه القهر والتنافس في أية لحظة.
كتب كومندون الحامية العسكرية بساحة (بطنا) في الجزائر سنة 1944، تقريرا لرئيسه عن الأحداث التي اندلعت في أحد الأحياء المخصصة للدعارة يوم الأحد 4 يونيو 44، حينما رفض زبناء هذه الأحياء التناوب بين الجزائريين من مقاتلي شمال إفريقيا وبين المقاتلين السنغاليين، وهي الأحداث التي برهنت -حسب التقرير-عن حدود التنظيم الذي يعتبر أصلا تنظيما معقدا. حيث كتب الكومندون بالحرف عن «الحقد العنيف والقابل في أي ساعة للانفجار بين السينغاليين والعرب» (14)
من المرجح أن اللبنات الأولى للبورديلات العسكرية(BMC)، قد وضعت في بداية الاجتياح الجزائري 1381. هذا التنظيم الذي ظل-حسب الكاتبة تورو- لما يزيد عن قرن، محاطا بالكثير من الغموض.
لقد صدرت تعليمات سرية عن وزارة الدفاع لإنشاء البورديلات المغاربية التي كانت مكونة من فرق عاهرات من إفريقيا الشمالية ومسيرة من وكلاء من نفس الأصل.
بمعدل مائة جندي لكل مجندة في البورديلات المتنقلة، يقتدن إلى معسكرات العار، يتناوب عليهن الجنود (مغاربة، جزائريون، تونسيون، أوربيون، سنغاليون) يقضين الليالي الموحشة تحت الخيام التي نصبت لتلبية الحاجيات الجنسية للجنود في المراكز المعزولة: أشبه بحصير في المقرات التي تضم الذخيرة والقياطن، إننا أمام نوع من السكن البدائي، الأكل على العموم غير كاف، والمشاجرة في بعض الأحيان تتخذ شكلا عنيفا..
“أوسويفون.. عارية تماما إلا من فوطة تلفني كغطاء، في الجبهة أحمر الشفاه وصابون في الكف، أمول نوبة، عمري عشرون سنة وكنا مائة وعشرين..ودوري كان دائما أن أكون تابعة للمتبوع..آمول نوبة..
عمري فقط عشرون سنة ولكنني شخت، في البورديل المتنقل لجيش في حرب..آمول نوبة، كم تمنيت قليلا من الحب، ابتسامة، أو على الأقل أن يكون لدي الوقت ل.. ولكن أمول نوبة..» ما أصدق جاك بريل الذي أحب المغرب وقضى فيه أياما طوالاً قبل رحيله، وما أكثر كلماته صدقا وتعبيرا عن مغاربيات طفن في البورديلات المتنقلة في البوادي!
دبج الكولونيل “بار لونش” قائد المجموعة الرابعة للطابور المغربي (گوم المغاربة المحليين الرماية أو الجزائريين المجند من طرف المستعمر) رسالة موجهة إلى الجنيرال گيوم كومندن الكوم المغربي، لم تخل شفراتها المبطنة من عنصرية جنسية، ففي الرسالة الموقعة بتاريخ فاتح يونيو 45 قال بالحرف: «لي الشرف كي أرفع لكم تقريرا عن مختلف المظاهر التي دفعتني كي أسجل ملاحظة تستدعي القيام ببعض الإجراءات العاجلة للحفاظ على معنويات الگوميين ..وللقضاء على مسببات الفوضى التي يمكن أن تحدث. من بين اقتراحاتي التي تستدعي ضرورة التعجيل بها، إعادة تنظيم الـ “BMC” ومقاهي (المورسكيون)…»
الحل الوحيد لمشاكل العنف التي يمكن أن تقع هو دعم وتعزيز صفوف المجندات في (BMC)، كما يؤكد الكولونيل “بار لونش”دائما وهو يدقق في نفس الرسالة على أن الكوميين القادمين في أغلبهم من القبائل البربرية لا يمكنهم العيش بعيدا عن نسائهم لمدة شهور طويلة، وأن الرفع من عدد الـ(بي.إم.سي) هو أنجع وسيلة لوضع حد لعدد الاغتصابات ومحاولات الاغتصاب التي تحدث في هذه البلاد(في إشارة إلى فرنسا)، مع الحفاظ على البرستيج الأوربي الفرنسي» (15)
إن ما قصده الكولونيل بالبرستيج الفرنسي، هو أن لا توضع الفرنسيات رهن إشارة الكوميين في الفترة التي وجد المعمر خلالها صعوبة في استقطاب العاهرات المحليات المتطوعات الكافيات لتلبية حاجيات وحدات الجيش، لدرجة أن (الجيش) -بتعبير تورو-اضطر إلى تشغيل فتيات قاصرات.
باختصار، اليوتنون بار لونش يعتبر بأنه «من غير اللائق أن تلبى الرغبات الجنسية للكوميين من طرف نسائنا الأوربيات»!(15)
هذه القراءة العنصرية للدعارة بين المجتمعات المختلفة، كانت تتقاسمها بشكل واسع قيادة الجيش وكذا السياسيون مع كل الإطارات الاستعمارية الفرنسية بأوربا.
ففي الوقت الذي برر فيه النظام الإستعماري الفرنسي الاعتماد على المغاربيات لتلبية الرغبات الجنسية للمجندين في جيشه، بأن الجنود يشعرون بالغربة أقل مع نساء تجمعهم بهن اللغة، والعادات والتقاليد، والوطن الذي ولدوا فيه، كانت الأسباب الثاوية وراء كل ذلك حرص القيادات الفرنسية العسكرية والسياسية على أن لا يفتخر الكومي بعد عودته إلى بلده بأية علاقات جنسية مع فرنسيات عاهرات!
نفهم إذن لماذا كانت ترفض الأوربيات العمل في هذا النوع من البورديلات المهينة للكرامة والغارقة في العنصرية!
كانت بينهن المطلقة، والثكلى التي فقدت الزوج والأب والخال في الصفوف الأمامية للحروب الفرنسية مع أعدائها، أولئك الذين كان يقال لهم:”زيدوا للكدام”، كل ما يلتقطه أغلب الكوميين الأمازيغ باللغة العربية من ضباط لم تكن للرحمة والشفقة بينهم مكان، اللهم صوت البنادق والإحتلال. كل واحدة منهن كانت تبحث عن جدار، ولم تكن أي منهن صلبة. الصلابة في حاجة إلى الامتلاك المعرفي وتخطي عتبة الجهل والأمية والجوع. وقد كن وحيدات في صحاري معزولة.
وكان لسان حال الكوميي مع اختلاف السياق، ذلك المونولوج الذي تردد بنشيد الموت في رواية وليمة لأعشاب البحر: «أنت لا تعرف عذوبة الجنس في لحظة الحرب. في لحظة الموت. عندما يموت المقاتل بعد استراحة هانئة مع امرأة لا يأسى على شيء. لقد أخذ الجسد وأعطى ثم نام مرتاحا. هذه هي الحياة يا خويا مهدي. الجزائري يحب الحياة والموت في نظره برق خاطف يعبر به ولا يبالي..»(16)
ولعل أبلغ وصف للحالة الإجتماعية والثقافية التي عاشتها ضحايا البورديلات المتنقلة في البوادي وبين المدن، وعبر الدول والقارات، تلك القصيدة التي أنشدتها مريريدا وترجمت من “تامازيغت” إلى الفرنسية، القصيدة/الرسالة المفعمة بالأحاسيس «أرجوكِ إبقي في بلدتك أيتها البدوية، انصتي جيدا إلى صوت مريريدا، أنت بدون والدين تٌخذلين، لا تغيري خبز الشعيرالرائع، مقابل الخبز الأبيض الذي وعدوك به، ما الذي تتوقعين أنك صانعة في المدينة؟ لو تعلمين ما الذي ينتظرك، عليك الخضوع للرجال، إذا أردت الأكل والمبيت، ستمرين من هذا إلى ذاك، ليس هناك من شيء آخر ينتظرك، (من أجلك)، ستكونين مأخوذة ومسلوبة، بالكسل والانحلال، دون القدرة على العودة إلى الوراء، إذا تجرأت وعدت إلى بلدك، ستطردين.. هل تعلمين (مرة أخرى) ما الذي ينتظرك، سيقتلك الندم، على “زلافة” الحساء الصباحية الكبيرة: “أسكيف”.. سيأكلك الندم على أغانيك، عند كل مرة يضمك فيها رجل.. وكل مرة ستحضنين فيها رجلا ستندمين على كلبك.. لو تعلمين ما الذي ينتظرك، المدينة بالنسبة لك مقبرة..» (17)
ما أشبه اليوم بالأمس، مع اختلاف في الألوان. صحيح أن أبواب حي بوسبير أغلقت بتاريخ 16 أبريل 1955 ومعها أوصدت أبواب باقي الدور المنظمة للدعارة، وصحيح أن المقاومة طردت المعمر الفرنسي. لكن، إذا كان «فريو بروسبر» ومعه الدعارة الكولونيالية غادرت المغرب من الباب قبيل فجر الاستقلال، فقد عادت عبر الشباك شبكات الدعارة التي تتاجر في المغربيات دوليا، هذه المرة أكثر تنظيما وتعقيدا لتغرس أظافرها دون ضمانات صحية!

—————-

جذور بوسبير: أصل التسمية «فريو بروسبر»
المهندس الذي تراكم الذهب في صناديقه بعد أن شيد دورا حملت اسمه!

وصل يومها شاب طموح إلى الدار البيضاء في عز الأطماع الإستعمارية. يصفه أحد قاطني درب السنغال المجاور لحي بوسبير بالمدينة القديمة، بكثير من الحنين: «كان طويلا. أبيض وعامر، زوين.. عادة ما يمر بسيارته من هذا الشارع(في إشارة إلى شارع “دوزيام تيرايور” في طريقه إلى الفيلا التي أصبحت اليوم عبارة عن مقاطعة. لازلت أتذكر أنه كان يملك الكثير من طيور الطاووس التي كنت أستمتع باستراق النظر إليها وهي تفرد أجنحتها بخيلاء. إنه اليهودي الذي كان يملك كل هذه الأراضي التي شيدت عليها هذه الدور، بالإضافة إلى تلك التي أقامها بدرب السلطان. إنها الأرض التي لازالت تحمل اسمه. باع ومشا، غادي يكون مات الله يرحمو..»
حينما نسأله عن البورديلات التي احتضنها حي بوسبير وحملت اسم مشيدها، ينتفض محاورنا: «واشبغيتو الصراحة؟ اليهودي شيد دورا من الطراز العالي، بدءا من هندستها المعمارية التي جمعت بين خبرته الأوربية وبين المعمار المغربي التقليدي، (يشير بيده إلى المدفآت والأقواس)، وصولا إلى الأشجار المبتورة: هنا كانت كرمة قلعناها، وهنا نخلة حيدناها، فينك يابني ويا شيمنيات، وعلى نقا وعلى عمران.. أنا مكيهمنيش واش كانت الدعارة، الفرنسيس كانوا منظمين البورديلات في المغرب كلو، وديرينها بقواعدها الطبيب والسبيطار، وحتى واحدة ما ضربوها على يديها، علاه دابة ما كيناش الدعارة في المغرب، أحقا المستعمر هو اللي جابها، ياك الفرنسيس خرجوا إيوا مالنا؟..»
“فريو بروسبر”: إنه نفس الشخص الذي عثرت “الأيام” على أثره، في بعض الكتابات: «وصل إلى المغرب أحد المهندسين القادم من مارسيليا الفرنسية، شاب ذكي، يحمل اسم “فريو بروسبر”، وحينما كان يقوم بعمله كمهندس فطن أمام قلة الأماكن المخصصة لـ(بي.إم.سي) إلى أنه يمكن أن يستفيد من هذه الوضعية .. بعدها، سيمنح بروسبر فريو للعاهرات ملاجئ أكثر راحة ورفاها.. هكذا كان إقبال كبير على كراء هذه الدور، فتراكم الذهب في صناديق المهندس الذي لم يكن يتوقف عن البناء، وهكذا خرج إلى الوجود في فترة زمنية قصيرة ما يسمى بالحي الخاص للدار البيضاء، حيث شيدت الدور وتراكمت ثروة هائلة في رصيد فريو بروسبر، الذي أصبح ثريا بفضل مقاولاته التي شيدت العشرات من الدور بحي سيحمل اسم بوسبير الذي ليس إلا اسمه..» (كتاب الحب في المغرب ص: 37)
ولجت “الأيام” فيلا المهندس والمقاول الذي اغتنى من ريع بورديلات الدار البيضاء، فإذا بالنخلات والكرمات بحديقته الواسعة، خلف البوابة الخشبية لمقاطعة بوسبير بالمدينة القديمة، ما تزال شامخة، أما بنايته التي زاوج فيها بين المعمار المغربي والأوربي، فقد تهدم جزء منها وطالها الإهمال والنسيان، بعد أن تحولت إلى “خربة” تأوي بعضا من رجالات القوات المساعدة.

———–

عاهرة لكل 100 جندي!
يلحقن بالجنود أينما حلوا أو ارتحلوا. ووحدها القيادة العليا تحدد عدد وتركيبة الـ(BMC ) التي توضع رهن إشارة الحاميات العسكرية، وبمجرد ما يتبين أن إحدى البورديلات المتنقلة متفرغة (إما لأن الجنود في ساحة القتال أو لتغيير خطة المعركة لظرف طارئ)، يُخبر الجينرال المسؤول عن الحامية بواسطة إرسالية تمهد تجنيدهن في منطقة أخرى.
ويحدث أحيانا أن تؤدي ندرة النساء المجندات في البورديلات المتنقلة في الوحدات العسكرية، إلى تناوبهن على أكثر من ثكنة وفق نظام يسهر عليه قائد المنطقة العسكرية.
والوثيقة التي بين أيدينا تؤكد ذلك. يتعلق الأمر بالإرسالية رقم: 4590/MCI BMC:” من الرباط إلى مكناس 3084
المراقب العام للمحلة أ، رقم 4590 رئيس المجموعة في “غاناي” يطلب موافقتكم لمرافقة الوحدات التي ستنتقل من أجل إقامة الـ”بي.إم.سي” المكون من (12 امرأة)” (كتاب الدعارة الكولونيالية، تورو ص:342).
إن انتقال أي من العناصر المكونة للبورديلات المتنقلة في البوادي في حاجة إلى موافقة، شأنهن في ذلك شأن أي عتاد عسكري يؤسس للتجهيزات الحربية، ومكون أساسي لخوض أية معركة في حاجة إلى حرب معنوية تؤثث المشهد الحربي اللوجستيكي.
يوميا، بمجرد ما يتوقف الرصاص تشتعل نار أخرى. يمر شهر، شهران، وستة أشهر، لا يفكر المجندون في المعسكرات الفرنسية إلا بالخلاص وبالخروج بأقل الأضرار من حرب ضروس، ولا شيء يشغل بالهم أكثر من المرأة، لاسيما أنهم ليسوا أصحاب قضية، فقد جندوا قسرا من طرف المعمر في حروب لم يدركوا كنهها ولا اقتنعوا بجدواها في مناطق الإحتلال الفرنسية!
إن الجنس -وفق هذه الصورة القاتمة- يصبح عنصر كبت يستبد باستمرار بالجنود، خاصة في الوحدات التأديبية، التي لا تملك في الغالب أية فرصة للقاء مع النساء.
يلاحظ من سنة إلى أخرى تقلص عدد النساء المجندات في البورديلات، الشيء الذي يؤدي إلى ممارسة المزيد من الضغط على المجندات اللواتي تفرض عليهن الباطرونات -بتعليمات من قائد الحامية العسكرية- الرفع من مردوديتهن، ولعل هذا ما يفسر ظهور علامات الكبر على عدد من المجندات في الـ(بي.إم.سي) كما توضح ذلك الكاتبة تورو. (نفس المصدر ص: 342)
“ عملية استقطاب البنات تتعقد يوما بعد يوم، وتصعب إدارتها باضطراد من طرف الجيش، الذي يجب أن يلبي الطلبات الملحة والمتزايدة للجنود(التي ارتفعت ما بين 1944 و1947في الوحدات العسكرية المكونة بشمال إفريقيا والمتمركزة في المتربول ومناطق الاحتلال، بالإضافة إلى طلبات الأندوشين لما بعد سنة (1946).
تم نقل 32 عاهرة محلية من المغرب والجزائر إلى نابل عبر وهران بتاريخ 27 دجنبر 1943، ثم سرعان ما لحقت بهن سبع وستون امرأة بتاريخ ثلاثة عشر مارس 1947، و28 امرأة في السنة نفسها. يبدو أن هؤلاء المجندات المستقطبات كن غير كافيات حسب الكولونيل كوموندون كاربونتي الذي أصدر مذكرة في 13 ماي 44 تطرق فيها إلى المشاكل التي تطرحها عملية الاستقطاب. نفس المصدر:(ص 400)
ففي رسالة سرية وجهتها الأجهزة العليا العسكرية والسياسية ممثلة في رئيس المجلس ووزير الدفاع الوطني، يوضح فيها (وزير الحرب) بتاريخ 24 ماي 47 الإجراءات التي تم القيام بها من أجل استقطاب شابات لإقامة الـ (بي.إم سي) في المتربول، خاصة بوحدات شمال إفريقيا، وذلك تحت إشراف المتعهدين المحليين تنفيذا لأوامر السلطة العسكرية لشمال إفريقيا.
وسيزداد الأمر تعقيدا وصدمة، إذا علمنا أن التخطيط والتوزيع العنصري للعاهرات في البورديلات المتنقلة-حسب المعايير الإستعمارية- كان لا يخرج عن القاعدة التالية:(عاهرة مغربية مع جندي مغربي)، لاسيما أن عدد المجندات بالنظر إلى العدد الإجمالي للوحدات، لا يخرج في أغلب الحالات عن هذه النسبة المائوية: امرأة لكل مائة جندي، الشيء الذي يعطي فكرة أكثر دقة حول المردودية التي تخضع لها هؤلاء العاهرات، وتظهر بقوة الطبيعة الحقيقية لاستغلالهن. (الدعارة الكولونيالية ص: 348)

—-

النقط التي وضعها المعمر على حروف النظام العسكري للبورديلات المتنقلة!

جرت العادة أن تستقر البورديلات المتنقلة في مراكز الجيش، على أساس أن تفصل الخيام المخصصة للبنات عن الوحدات العسكرية. لكن، يحدث في بعض الأحيان أن تتخذ الوحدات العسكرية من بعض القرى مركزا لها، وفي بعض الحالات يسمح لبعض المدنيين بالإستفادة من الخدمات الجنسية للبنات، ما لم يتعارض ذلك مع التعليمات العسكرية.
تخضع تنقلاتهن خارج المناطق العسكرية لمراقبة أعلى رتبة عسكرية في الوحدة العسكرية، وحتى المراسلات وإرسال الأموال إلى ذويهن يوكل إلى ضابط مختص.
ويبدو أن البورديلات -حسب تورو- رغم انتشارها في مجموع تراب شمال إفريقيا، لم تكن منظمة بنفس الطريقة، فسوس المدينة التونسية مثلا، كانت مقسمة في سنوات الثلاثينيات حسب ثلاثة أنواع: الضباط، وضباط الصف، والجنود.
في حين يظهر أنها أكثر “ديمقراطية”، بالنسبة للمغاربة والجزائريين المتمركزين في (لابلاس)، فالبورديل المتنقل كان مقسما سنة 7391على النحو التالي: ثلاث مجموعات: المجموعة الأولى كانت مخصصة للفرقة المتحركة (تران 321) والمجموعة الثانية التابعة للگوم في تندوف، وهي نفس الفرقة التي يتقاسمونها مع فرقة الطيران والفرقة العسكرية، وقد كانت الـ(بي.إم.سي) التابعة لـ(لالجيون)مكونة منذ أكتوبر 1936 من شابتين مستقطبتين من السكان المحليين، تحت إشراف الباطرونا فاطنة (ب.ب).
أما بالنسبة إلى الـ(بي.إم.سي) التابع للفرقة العسكرية الصحراوية، فقد كان مسموحا للمدنيين -تحت مراقبة السلطة العسكرية-بالقرية مضاجعة عاهراته كل أسبوع أيام الثلاثاء والخميس والسبت، مباشرة بعد العاشرة ليلا.
وبصفة عامة كانت البورديلات المتنقلة لـ “لابلاص” مفتوحة خدماتها للعموم -طبعا دائما تحت أعين السلطة العسكرية- كل يوم من الثانية عشرة زوالا إلى الواحدة والنصف ومن السادسة إلى العاشرة ليلا، بينما أيام الآحاد والأعياد، تخضع البورديلات للعمل المستمر من الساعة السابعة صباحا إلى العاشرة ليلا!
وبالنسبة للضباط وضباط الصف لجميع الوحدات، فلديهم الحق استثنائيا في مضاجعة البنات المستنفرات للمجموعات الثلاث، وذلك ابتداء من الساعة العاشرة صباحا إلىالخامسة مساء، وأيام الآحاد وأيام العطل وكل يوم بعد العاشرة ليلا. وبما أنهم يحتلون داخل الجيش رتبة عسكرية عالية، فبإمكانهم أن يأخذوا البنات في نزهة أو لتناول العشاء أو لارتياد السينما.

~ بواسطة albder في سبتمبر 13, 2009.

رد واحد to “الجنس 00 وأسرار بورديلات الجيش والدعارة المقننة في المغرب”

  1. نانسي عجرم…

    […]الجنس 00 وأسرار بورديلات الجيش والدعارة المقننة في المغرب « روح البدر[…]…

أضف تعليق